الالتزام بأحكام عقد المقاولة وما يقتضيه العرف في الأعمال الإنشائية

الأصل أن العقد كما عرفه القانون من حيث قوته وإلزامه لأطرافه هو شريعة المتعاقدين، طالما أنه لم يتعارض في أي من بنوده مع القواعد القانونية الآمرة، إلا أنه في بعض الأحيان قد يكون الالتزام بأعراف العمل واجبا أيضا وإن لم يكن منصوصا عليها بنصوص قانونية آمرة، ولذا يتعين أن تؤخذ القواعد العرفية في الأعمال بعين الاعتبار أثناء تنفيذ العقد، فلا يجوز أن يؤدي الالتزام بحرفية بنود التعاقد إلى إقصاء وإهمال الأعراف التي تتعلق بأصول الصنعة وما يجرى عليه العمل عرفا بشكل معتاد بخصوص العقود الإنشائية وغيرها. فعلى سبيل المثال يمكننا تأمل ما يجري عليه العمل القضائي في بعض الأحيان، حيث لا يعتبر التشريع هو المصدر القانوني الوحيد، ولذلك يكون للقاضي أو لهيئة التحكيم اللجوء إلى العرف القانوني لسد الفجوة في حالة غياب المعالجة التشريعية لبعض أو كل ما اشتملت عليه المسألة محل النظر، إلى جانب ضرورة التحقق من كون بنود التعاقد لا تخالف أو تهمل الأمور العرفية دارجة التطبيق على تلك الأنواع من العقود، وللوقوف على المقصود من هذا الطرح نستعرض الآتي.

أولًا: نبذة عن مفهوم “العرف” بشكل عام

“العرف” هو مجموعة القواعد غير المكتوبة التي اتبعها الأفراد في سلوكهم أجيالا متعاقبة، حتى نشأ الاعتقاد لديهم أن هذه القواعد أصبحت ملزمة وأن مخالفها سيتعرض لجزاء الجماعة. فالعرف هو المصدر الثاني من مصادر القانون الرسمية ويعتبر مصدر احتياطي أو بديل للتشريع في حالة عدم وجود قاعدة قانونية واجبة التطبيق، ولذلك فإن القاضي لا يلجأ إليه إلا في حالة عدم وجود نص تشريعي، أو في حالة وجود نص يشير للعرف صراحة أو ضمنا، وعليه لا يجوز أن يدفع به المحامي في وجود نص تشريعي يحكم المسألة.

وذلك قررته المادة (1) فقرة رقم (2) من القانون المدني المصري والتي جاء نصها كالتالي:

“…. فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى العرف…”.

وتجدر الإشارة إلى أن القاعدة القانونية العرفية لها ركنان، تم تعيينهما من أجل تحديد ما إذا كان السلوك المتبع هو قاعدة عرفية أم لا، وبالتالي إمكانية الاستناد إليهما من عدمه.

وفي كل الأحوال يتعين لتمييز العرف الذي ينبغي الأخذ بمقتضاه وعدم مخالفته ركنان أساسيان على التفصيل التالي:

أ- الركن المادي للعرف:

ويتمثل في الاعتياد على الالتزام بقاعدة معينة غير مكتوبة، ويتحقق ذلك بتوافر ثلاثة شروط وهم:

  • القدم والتكرار
  • العموم والاستقرار
  • عدم مخالفة النظام العام، وأن يكون الاتباع مستقرًا، أي اتباع السلوك بشكل ثابت ومستمر مع عدم مخالفة النظام العام، المعبر عن مجموعة المبادئ الأساسية في التنظيم الاجتماعي، أو مجموعة الأسس التي تكون المعتقد الاجتماعي العام.

ب- الركن المعنوي:

ويتمثل في الشعور بالإلزام وليس مجرد الاعتياد على الالتزام بل الاعتقاد أيضًا بإلزامه، فالقاعدة العرفية تستمد إلزامها من اصطلاح واتفاق الجماعة على تلك القوة الإلزامية لفحواها، ولما تضمنته من طرق تنظيمية للتعاملات بخصوص المجالات المختلفة ومنها مجال المقاولات والتشييد.

ثانيًا: نطاق الالتزام بحرفية بنود التعاقد

لا تثور أي مشاكل عندما لا تتعارض حرفية بنود العقد مع أعراف العمل أو أصول الصنعة، ويتعين العمل حين ذلك بما اشتملت عليه تلك البنود حرفيًا، واعتبارها واجبة التنفيذ كما اتفق عليها أطراف التعاقد، فالعقد يكون في هذه الحالة شريعة المتعاقدين الوحيدة التي تحكم الاتفاق فيما بين الأطراف، فإذا كانت تلك البنود تتوافق مع القانون ولا تخالفه أو تخالف أي قاعدة عرفية بخصوص العمل أو طريقة التنفيذ، تكون قوة إلزامها لأطراف التعاقد مكتملة لا يحد منها شيء. فمثلًا ما يتعلق بتحديد الأجور أو مدة العقد أو ساعات العمل أو كميات وأنواع المواد المستخدمة في إنجاز الأعمال أو مكان التنفيذ، يكون الالتزام هنا بحرفية البنود التعاقدية كما صاغها واتفق عليها المتعاقدون، إلا إنه يجوز في كل الأحوال التعديل أو التخفيف من التزامات أي طرف بتعديل بنود التعاقد ذاتها بشرط اتفاق أطرافه على ذلك التعديل.

ثالثًا: ما يقتضيه العرف في الأعمال الإنشائية

لاستيضاح ذلك نذكر على سبيل المثال نص المادة (649) من القانون المدني المصري التي نصت على أن:

  1. إذا كان رب العمل هو الذي قدم المادة فعلى المقاول أن يحرص عليها ويراعي أصول الفن في استخدامها لها، وأن يؤدي حسابًا لرب العمل عما استعملها فيه ويرد إليه ما بقي منها، فإذا صار شيء من هذه المادة غير صالح للاستعمال بسبب إهماله أو قصور كفايته الفنية، التزم برد قيمة هذا الشيء لرب العمل.
  2. وعلى المقاول أن يأتي بما يحتاج إليه في إنجاز العمل من أدوات ومهمات إضافية ويكون ذلك على نفقته، هذا ما لم يقض الاتفاق أو عرف الحرفة بغير ذلك.
  3. فمن الناحية الواقعية لابد من استخدام مادة لإنجاز العمل في أغلب عقود المقاولات وخصوصًا في مجال صناعة التشييد، وبالتالي فإن تلك المادة إما أن يقدمها المقاول أو يوفرها رب العمل، وفي الحالة الأخيرة يكون عمل المقاول مقتصرًا على حرفته، أي كما هو متعارف عليه في صناعة التشييد: “أعمال توريد وعمل” أو “أعمال مصنعيات” فقط.
  4. وفي حال تقديم المقاول لمادة العمل يتعين عليه ضمانها، ولم يحدد القانون صراحة مدة الضمان لأعمال المقاولات وقد جرى العرف أن تكون مدة الضمان سنة ميلادية للأعمال المدنية وسنتين أو ثلاث سنوات ميلادية للأعمال الإليكتروميكانيكية من تاريخ استلام رب العمل للأعمال ابتدائيًا، وبالتالي في حالة عدم تحديد مدة الضمان أو وضع مدة ضمان مختلفة يكون العرف المشار إليه هو الذي يتعين الالتزام به مهما كان نص البند المتعلق بهذا الخصوص بعقد التشييد.

رابعًا: أثر العرف في العقود الإنشائية

العرف في العقود يمكن تسميته اصطلاحًا بـ”العرف العقدي” وهو عبارة عن العادات التي درج عليها الناس في العقود، حتى أصبحت في نظرهم ملزمة لا يجوز مخالفتها، وذلك قد يثار عندما نكون بصدد تفسير العقد، والوقوف على التزامات كل طرف من أطراف التعاقد.

وتشير العادة العرفية بهذا المعنى إلى التقاليد التي يعتبرها الناس ممارسة شائعة في إبرام العقود، حتى أصبحت من وجهة نظرهم التزامًا لا يمكنهم خرقه، وعلى ذلك لا يختلف الأمر إذا كنا بصدد عقد مقاولات أو تشييد، فهو كسائر العقود الأخرى، تحكمه أعراف تتعلق بما جرت عليه العادة بخصوص هذه النوعية من الاتفاقات، لذلك تكون الخبرة مطلوبة في حالة وجود أي نزاع بين الأطراف حول تنفيذ بنود تلك العقود وحول مدى وجوب الأخذ بحرفية بنود التعاقد في بعض المواضع، أو ضرورة اللجوء للمدلول العرفي لتلك البنود، وقد يستعين القضاء أو هيئة التحكيم المختصة بآراء الخبراء لاستظهار المعنى المقصود لنص البنود طبقًا لأعراف وأصول الصنعة.

بيد أنه قد يترتب على إعمال آثار العرف التعاقدي مخالفة حرفية بعض بنود التعاقد، أو تغيير مدلولها بشكل تام، بما قد يعبر عن إلغاء ضمني لبعض أو كل ما اشتمل عليه النص بمعناه الظاهر الذي خالف الأعراف المتبعة في صناعة التشييد، أو ما جرى عليه العمل في هذا المجال.